يتحتم علينا ونحن نقدم هذه المقالات أن ننبه القارئ إلى حقيقة غاية في الأهمية وهي الفرق الكبير بين التعليم بمفهومه الحديث الآن وبين الخدمة في مفهومها المسيحي الأصيل.
أما التعليم حتى ولو كان في الأمور الروحية فهو يختص بتهذيب الفكر ليتشبع بأسلوب الإنجيل وتدريب الملكات الإبداعية .... وهذا بالتالي ينتهي كله إلى الإعلاء بالشخصية على أساس الكفاءة الذاتية والتفوق على الآخرين في الأمور الروحية.
وأما الخدمة فهي تختص بوعظ النفس وتبكيتها وضبط الغرائز والسيادة عليها لإطلاق الروح من عبودية الأهواء والنزوات والدخول في حالة توبة نشطة دائمة لتقبل نعمة الله. وهذا بالتالي ينتهي إلى تنازل عن الذات وتسليم النفس الله و بلوغ حالة من الصدق في السلوك مع الناس والأمانة في العبادة الله مع خشوع وتقوى . إذن، فالتعليم بمفهومه وواقعه الآن يتمركز حول الذات ، وهو بدون الخدمة ينفخ صاحبه حسب اصطلاح الإنجيل "العلم ينفخ ولكن المحبة تبني" ( ١ كو۸ : ١ ) .  أما الخدمة فتتمركز حول الروح وهي تملأها خشوعاً وحباً واتضاعاً .
لذلك ، أصبح لزاماً علينا أن نوجه الأنظار إلى ضرورة الخدمة الروحية وإلا أصبح التعليم وبالاً على النفس .
***
هناك أيضاً فرق كبير بين معلم الدين وخادم الروح، الأول يلقن المعرفة والثاني يبني النفس، الأول يستقي المعرفة من الكتاب و يقدمها للتلميذ على ورقة والثاني من ملء روحه يفيض، من إيمانه وحبه و بذله واتضاعه يقدم الخبرة والمثال الحي فهو يعطي نفسه و يقدم حياته . الأول ناقل كلمة يقولها كما سمعها وتعلمها والثاني بلد الكلمة من بطنه فتتفجر من أعماقه كما يتفجر الينبوع من باطن الأرض . الأول يحضر الدرس ليقود الناس الى فكره والثاني يتمخض ليلد بالروح أولاداً للمسيح .
وهناك أيضاً فرق بين تلميذ اعتاد أن يجلس إلى معلمه يسمع درساً في الدين بوعد إذا حفظه ينال جائزة أو مديحاً و بين ابن في الطاعة أسلم روحه بيد مرشده ينتخس قلبه بوعظه فيسعى إليه نشيطاً كل يوم يسأل ماذا ينبغي أن يعمل جديداً ليتخلص من خطاياه و ينمو بالروح !!
الأول يزداد كل يوم علماً ويجتهد بالأكثر ليكون أفضل من غيره و يفتخر على كل من هم دونه !!! والثاني يزداد كل يوم نعمة واتضاعاً ويجتهد بالأكثر ليكون غير محسوب عند أحد ولا عند نفسه !!
***
إذن ، فخادم الروح ليس هو مجرد معلم دروس بل بالدرجة الأولى مخلص نفوس ، والخدمة همها الأول وشغلها الشاغل توبة الشبان والشابات وسلوكهم سلوك الفضيلة ومخافة الله .
درس المحبة لا يمكن أن يكون مجرد كلمات محضرة وأمثلة محبوكة ، ولكنه عطاء نفس حقيقي حيث يهب الخادم كل حب المسيح وكل شوقه مع كل ما يملك من خبرات إليهم فيدخل السامعون مجال المحبة الإلهية محسوساً في حب خادمهم و يذوقونها بالروح فتنتقل إليهم المحبة تماماً كما يسلم الأب ميراثه لبنيه !!
درس الأمانة والإخلاص والصدق ليس بكلمات أو آيات أو ترنيمات بل هو قيادة صعبة شاقة مخلصة حيث يقود الخادم أولاده واحداً واحداً في هذا الطريق الحرج الباهظ التكاليف يشجعهم ويحفزهم ويسندهم ويحمل معهم نيره المر و يتقاسم معهم الخسارات والإهانات !!

درس الاتضاع ليس بالإقناع العقلي يكون ، ولا هو بتقديم الأمثلة للحماس وللـغـيرة بل هو جهاد طويل ونزاع مرّ ضد الذات وشاق كل المشقة لا يمكن لإنسان أن يجوزه بدون يد تمسكه في هذا المنحدر الخطر. فتارة تقيمه مثل هذه اليد الأمينة من عثرة صغر النفس، وتارة توضعه حتى التراب إلى أن تتصفى الروح من شوائب عزة النفس وكبر يائها والبكاء على كرامتها .

درس الطهارة ليس أحلاماً وأماني ونماذج رفيعة وأسماء أو وصايا ومناهج للجهاد وحسب، بل هو أولاً وقبل كل شيء استعداد الخادم أن يكون غاسل أوساخ كالأم التي لا تستنكف أن تمسح وسخ ابنها كل يوم عدة مرات بطول أناة ، بصبر، بعدم تأفف ، وبرجاء ، تنتظر يوم العتق بلا عتاب ، بلا تخويف ، بلا انزعاج ، حتى ينسلخ الطفل من ضعفات طفولته و ينسى كل ما كان للطفل ؛ وإن أي جهالة في الرعاية كفيلة بأن تصعب الشفاء تماماً مثلما يقسى على الطفل بلا تعقل فيعجز عن أن ينسلخ في الوقت المناسب عن ضعفاته فيحملها معه حتى إلى طور الرجولة ... 

هي إذن دروس حياة ، حياة أبدية تعد الشاب لا لمواجهة أسئلة الناس بل أسئلة نفسه ، وترفعه لا فوق مستوى الآخرين ليتعالى بالمعرفة ، بل ترفعه بالحق فوق مستوى أهوائه وشـهـواتـه ونزواته ليكون أصغر الكل والمستمتع بالمتكأ الأخير. لا تؤهله لمعرفة الكلام وكتابة الكتب بل تؤهله للتعرف على نعمة المسيح لكشف خطاياه وعيوبه . لا تلقن للعقل على مستوى الحفظ وتكديس المعلومات بل هي قيادة هي دروس وريادة في ميدان الروح يتحول فيها الكلام والنصح والتوجيه والتوبيخ إلى إيمان ورجاء وحب ، يعمل و يظهر في السلوك والأخلاق والطباع ؛ حيث وسائل الإيضاح لا تعود أوراقاً وأخشاباً وألواناً وألاعيب ، بل برهان الروح في القلب وإحساس الضمير وظهور المسيح في أعماق النفس وعشرة الآباء والأنبياء والقديسين ومعايشة قصص الكتاب كما هـي يـومـاً بـعـد يـوم . والامتحانات والجوائز والحوافز لا تعود مجرد صور وهدايا وحلويات بل النجاحات والإخفاقات التي يعيشها الخادم و يواجهها المخدوم تجاه وصايا المسيح وتعاليمه وحيث لا يعود الدرس ميعاده ساعة بل يمتد ليغطي حاجة العمر كله، والامتحان في نهاية السنة لا يشهد قط على كفاءة التلميذ بل يوم الدينونة .

ما أعظمها وأجلها خدمة !!! وما أصدقه الخادم الوفي الأمين حينما يقول كما يقول الرب لتلاميذه : « تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب » ... أنتم تدعونني معلماً وسيداً . وحسناً تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأني أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً » .